ها بالسياحة اللبنانيّة تحقن بجرعة جديدة من مقويات المناعة، وها بالجوّ العام يرتوي من خمر فرح الموسيقى والرقص، وها بالوطن يعيش على أنابيب الإنعاش المؤقتة ، كرسي الرئاسة فارغة لكن عيش الأشرفية ممتلئ بالناس، المجلس النيابي معطّل لكن جونية تتفرّج على "فرقيع" الألعاب النارية المبهرة كما زحمة السير على أوتوسترادها، مجلس الوزراء شبه مشلول بالإستقالات والمناكفات و "النكايات" لكن تنورين والأرز وإهدن والمدفون وكل الشمال ينتشي من مسارح وإضاءة و "كيوسكات" المنقوش والعصير، المأكولات فاسدة لكن الإحتفالات في زحلة والبقاع صالحة الإستعمال في موسم الصيف، الكهرباء مقطوعة لكن ليس عن مهرجانات الجنوب المحرر من كل شيء إلا الفقر.

الصيف في لبنان لا يُشبه أي صيفٍ في أيّ بلدٍ أو قارةٍ أو حتى كوكب في النظام الشمسي، فالصيف حار، زحمة السير خانقة "الديجونكتور" أو الهاوس يتعب من لعبة الكبس من كثرة تحميل المعدات الكهربائية...لكن كل هذا لا يهمّ طالما أننا حجزنا لأنفسنا مقعداً في هذا المهرجان أو ذاك، على أصحابنا أن يتابعوا صورنا في مواقع التواصل الإجتماعي ويشاهدونا لثوانٍ قليلة ونحن نلتقط الصور في مهرجان المنطقة فلانية، ومن أمام الفنان علاّن، ربما ننتشي بشهرة دقائق تعوّضنا عن حرماننا من شهرة الفنان نفسه.

بما لا شك فيه أن المهرجان هو عنصر إيجابي في لبنان، فهو يدلّ على المستوى العالي من الأمن والأمان وخصوصاً مقارنة مع الدول المجاورة، والفضل بهذا يعود إلى القوى الأمنية والجيش اللبناني اللذين تفوّقا حتى على قوى أمنية عالمية لم تستطع ضبط فلتانها الأمني، ونحن لهما دائماً من الداعمين حتى آخر رمق. أما الإيجابية الثانية فتكمن في الحركة الإقتصادية التي تبعثها الإحتفالات في شرايين المنطقة.

لكن كثرة المهرجانات مثل قلّتها، كثرتها دليلٌ آخر على التطرّف اللبناني حتى في البذخ والمبالغة. للمدن والقرى الكبيرة عذرها في إقامة المهرجانات الصيّفيّة (بيروت، إهدن ، بيبلوس، جونية، طرابلس، زحلة ، زغرتا وبشرّي وبعلبك وبيت الدين وصور)، لكن لماذا لا تتّحد جميع المهرجانات في الأقضية تحت عباءة مهرجان البلدة أو المدينة الكبرى، أم أنها مسألة "نكاية" تبعاً للمبدأ اللبناني الشهير "بيّ أقوى من بيّك"؟! فالقرى المحرومة لا تحتاج إلى الفنان والـ"هيصة" الفارغة، بل تحتاج إلى من ينعش قطاعها الزراعي والصناعي المتلف من سياسات الإهمال والتجويع.


فلنراجع كلفة المهرجان تقريباً ومن هنا ينطلق النقاش، المسرح بتجهيزاته وإضاءاته يكلّف حوالى 40 الف دولار، أكشاك الحمامات تكلّف حوالى 7500 دولار، كلفة التنظيف حوالى الـ 2000 دولار، كرافانات وراء الكواليس حوالى الـ 15 الف دولار، كلفة توليد الطاقة الكهربائية حوالى 7 الاف دولار، أما الحراسة وخدمة الناس فحوالى 10 دولار، هذا عدا عن كلفة الدعاية والتصوير والصوت الذي يكلف وحده حوالى 7 الاف دولار ، أي أن التكلفة المبدئية هي 100 الف دولار هذا إذا كان المهرجان يقام على يومين أو ثلاثة . أما هنا فنصل إلى تكلفة الفنانين بفرقهم والتي لن ندخل في تفاصيلها إحتراماً لعمل وجهد الفنان الذي وصل بجهده إلى هذا السعر، لكن نذكر بأن الكلفة تتراوح بين 20 الف و 200 الف دولار للفنان الواحد، بحسب الصفّ الذي ينتمي إليه وبحسب القاعدة الإقتصادية الشهيرة "العرض والطلب" ، كما علمنا أن بعض الفنانين يطلبون مبلغاً مضاعفاً من المهرجانات اللبنانية في حين أنهم يتقاضون مبلغاً أقل في الدول الأوروبية .


فلماذا لا تقوم اللجان المشرفة على هذه المهرجانات برصد تلك المبالغ الضخمة التي تُحصّل بطريقة الرعاية أيّ "sponsorship" إلى قطاعات إنتاجية تفيد القرى بدل من صرفها على شفّة خمر مهرجان يُسكر لساعاتٍ قليلة وتنتهي فرحتها في الصباح الباكر؟ لماذا لا تتوحّد مهرجانات القضاء الواحد في مهرجان واحد وتخصص المبالغ الأخرى لترميم المدارس الرسميّة مثلاً أو دعم الجمعيات التي تعنى بذوي الإحتياجات الخاصة؟

أما الأسئلة التي تُطرح هنا فهي على الشكل الآتي: هل يُكشف للرأي العام ولأهالي المنطقة خصوصاً عن "الكشف المالي" لتكلفة كل مهرجان والطرق المتّبعة لجمع الرعاية المالية وعن الأرباح الصافية ولأيّ جهة سيتمّ تحويلها؟

لماذا لا تُستبدل "بهورة" بعض المهرجانات والبذخ غير المجدي في الإحتفالات والدعاية والالعاب النارية بدعم مشاريع إنمائية أو بيئية أو تربوية. كما تفعل البلديات في القرى الأوروبية والاميركية، حيث تكتفي كل قرية بإحتفال صغير بعيد عن المبالغة، وجمع التبرعات للمشاريع الهادفة منها تعبيد الطرقات وايصال الكهرباء والمياه وصيانة البنية التحتية .
ألا يكفينا تمييز طبقي في لبنان في الوظائف ونوعية الخدمات الصحية والتربوية، لكي نتبعها بتمييز طبقي في المهرجانات حيث يُعامل الأثرياء بمبدأ أبناء الست والطبقة المتوسطة بمبدأ أبناء الجارية، في المقاعد والمعاملة وركن السيارة وحتى تصل إلى مبدأ "طاولة عشاء للغني" و "كرسي موجع" للفقير.
ألا تأخذ هذه المهرجانات بعين الإعتبار التعب النفسي لأهالي المنطقة الذين لا ينامون من صوت الفقش والرقص، أو يختنقون من زحمة السير، كما سمعنا بالتسجيل الصوتي الشهير الذي إنتشر في لبنان، والذي وضع الإصبع على الجرح عندما قال إن "جونية" تعاني من الحرمان، لكن هذا لا يهمّ يجب أن نشكر الله على "Live love Jounieh" التي تكلفت آلاف الدولارات على الألعاب النارية .

فعلاً المهرجانات قائمة والشعب جائع، المهرجانات قائمة والفقر مضنٍ، المهرجانات قائمة والكهرباء مقطوعة، المهرجانات قائمة والبلد واقفٌ... وبحبك يا لبنان.